داليا فكري تكتب: مجلس النميمة وحكاية الزبيب وبطحة محمد
ريثما أجلس منفردة، أتناول كوبي الدافئ من النسكافية أتذكر مجلس النميمة المنعقد بعد صلاة المغرب في شارعنا الموقر، هذا الوقت الذي تتخلص فيه النساء من همومهن التي تثاقلت وأحزانهن التي تقاذفتها متاعب الحياة.
وبعين الطفلة وإدراك المراهقة وإستيعاب فتاة شابت قبل أن تنضج، كنت أتمعن في خطوط الزمن التي ارتسمت على هؤلاء النسوة وكيف كن ينشدن قصيدة “الأبواب المغلقة” التي تفتح على مصرعيها بعد كل أذان مغرب، فحينها ينصرف الزوج للعب الطاولة مع نفس مجلس النميمة ولكن بفارق الشارب ولمحة من كبر الذكور، تعلوها ترنيمة مقدسة عن انجازاته المتناهية في فراش الزوجية أو عبوره ملحمة الخناقة مع “الولية” مثلما كانوا يسمونها على تلك الطاولة.
وتبدأ النسوة في الانشاد عن قميص النوم الأحمر “اللي اشترته بالتقسيط” حتى عيون البوتجاز “اللي نظفتها بالليمون”، وسريعا ما يمر الحديث حول “الراجل الشقيان اللي الست دارت على شمعته“.
وبعين الثائرة التي لم تعرف للطفولة عنوان كنت أتعجب من مجلس النميمة هذا فالخالة ثناء تحيط عيناها هالة زرقاء ومع العلم أني أعلم أنها ختم الزوج الذي أيقظني صوته الجهور وأصوات الطرقعات والصراخ والعويل إلا أن الخالة ثناء أصرت أن “ضرب الحبيب زي أكل الزبيب” ومنذ هذا اليوم وأنا لا أتناول الأرز باللبن خوفا من عدوى الزبيب المنتشرة في شارعنا.
وعلى الرغم أن الشارع أجمع يعلم كل حكاية الشمعة ويسمعون الحبيب وهو يضع الزبيب حول عين ثناء، إلا أنهن كن ينصحنها بجملة حتى الأن أسمعها بين الأن وأخر “معلش ياختي الست لازم تحاجي على بيتها وجوزها عشان المركب تمشي“.
وكان السؤال الذي يدور بوجداني آنذاك “هي ليه الولية دي ما مسكتش الطوبة وبطحته”، الطوبة هي كانت سبيلي في الدفاع عن نفسي وقتها فلطالما بطحت شباب شارعنا الموقر، وكانت البطحة الأولى عندما أصر جارنا محمد ألا نلعب “الأولى” “لعبة للبنات وقتها” أمام محل والده المغلق وكان إصراري وقتها أن الأرض ملك الحكومة روح اتحكم في بيتكوا، وكان هذا أول مشهد للعنف الذي مارسته وقتها.
وعلى الرغم من أن النشوة كانت تعلوني إلا أني كنت مرعوبة من محمد “قلت هيعملي هالة زرقاء زي الخالة ثناء” ولكن إحساسي بالقهر وقتها وبالتحكم حتى في أبسط شئ وهو حرماني من لعبتي المفضلة، جعلني أدافع عن لعبتي ببطح محمد.
ورب ضارة نافعة مع العلم أني كنت أحطاط دائما ألا أرى محمد بمواجهتي خوفا من الزبيب، إلا أني اكتسبت المزيد من الأصدقاء فتلك البنت القصيرة ذات الخدود الحمراء والعين الصغيرة التي تمكنت من التعليم على محمد، معلومة “محمد منساش البطحة وجابني من شعري وكانت نتيجتها اني اتعلمت تاني وسيلة للدفاع عن النفس وهي العض”، ومن البطح إلى العض تعددت أسلحتي حتي ألهمتني الروح الانتقامية الكامنة أن أربي أظافري حتى أنقش بها وجه كل محمد.
ومع كل هذا العدوان القائم بيني وبين محمد وشلته إلا أني أصبحت حديث السمر وكنت أسمعهم يتهامسون عن البنت اللي بطحت محمد، ومع تكرار سماع اسمي مقترن بمحمد كنت أنا التي أبحث عنه لأواجهه ولم يكن بداخلي نشوة من انتظار المعركة بقدر ما كنت أنتظر أن أرى محمد إلى أن جاءت المواجهة الثانية عندما كنت أطور منظور لعبي فوصلت للعب “الكبة” لعبة بخمس طوبات تلعب باليد” إلا أني وجدت من يسحبني من شعري انتقاما ولم أِشعر إلا وجلد يديه وطعم دمه ممزوج بلعابي.
وحتى لا ننسى الزبيب اختلفت نظرتي لمحمد بعد تلك الموقعة، حتى هو يبدو أنه استسلم لأسناني فكان مستسلما غير مواجها لي حتى أني كنت ألعب أمام محل والده عن قصد ويأتي ليشاهدني دون أي احتكاك “ساعتها فعلا صدقت ان في زبيب” ومنذ تلك اللحظة عدت لأكل الأرز باللبن غير مجابهة لأني استطيع مجاراته لكن ما أقلقني هو نظرتي لمحمد، فبعد البطحة كان عدوي اللدود أما بعد العضة صار دميتي التي أتمنى احتضانها.
ومنذ ذلك الحين لا أخاف ولا أتراجع فالعنف الذي واجهني مثلما واجهته أكسبني اقبالا على الحياة وعلمني أن لترويض الشرس لابد أن تكون أكثر شراسة، ولا حياة للمستضعفين، ومع مرور الزمن تيقنت أن الزبيب أمر أساسي في كل بيت، ولكن لابد من أن أملأ جيبي بالطوب وأحرص على نظافة أسناني ورعايتها وأقلم أظافري باستمرار ومرحب بالزبيب وشابوه لمعلمي فنون القتال.. تحية لـ”محمد“.
بقلم| داليا فكري