مقالات وآراء

عبد الرحمن خليل يكتب.. جيوسياسية حرجة

أصبح من الواضح أن ترتيب الأقطاب الذي أعقب الحرب الباردة يمر بتحولات جذرية مفاجئة، ومأساوية في بعض الأحيان، مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والربيع العربي، والحرب في أوكرانيا، و صراع الصين مع تايوان.

تثير كل هذه التطورات التساؤل حول الكيفية التي سيتغير بها العالم في العقود القادمة، وما هي الطرق المحتملة والغير المعروفة التي يجب أن نأخذها في الاعتبار في السيناريوهات الجيوسياسية.

الجيوسياسية العالمية – وتراجع نموذج الدولة الغربية

هناك العديد من العوامل التي تؤثر على الجيوسياسية العالمية، مع وجود احتمالية كبيرة للتغيرات الدراماتيكية وغير المتوقعة، أو الآثار المتتالية لأحداث معينة.

وبالتالي، يجب التعامل مع الاتجاهات الرئيسية المبينة في الاستراتيجيات بقدر من الحذر، ومع ذلك، فإن طريقة التفكير الاستراتيجي وراء صياغة هذه التنبؤات يمكن أن تكون في كثير من الأحيان أكثر إثارة للاهتمام من التوقعات نفسها.

يجب أن نكون على دراية أيضًا بالتحيزات النفسية المحتملة في تفكيرنا: على سبيل المثال، نميل إلى استقراء الاتجاهات الحالية كما لو كانت ستستمر بشكل طبيعي، أو نميل نحو المبالغة في التأكيد على المشكلات الحالية.

قد تؤدي التفضيلات الأيديولوجية والمعتقدات الشخصية أيضًا إلى تشوية توقعات المثير من المحللين للمستقبل ولكن مما لا شك فيه أن هناك تراجع في سيطرة النموذج الغربي على القيادة الفكرية في العالم، وينبع هذا التراجع من مجموعة متنوعة من الأسباب أبرزها  أزمة نظام الرفاهية، وانتشار أيديولوجيات ما بعد الرأسمالية، وفي كثير من الأحيان ضعف شرعية الديمقراطية.

بينما يكافح النموذج الغربي، قد تصبح أشكال الحكم البديلة أكثر جاذبية (مثل الحالات الصينية أو الروسية)، يتزامن تآكل النظام الغربي مع زيادة بروز الجهات الفاعلة غير الحكومية، سواء كانت تلك الشركات أو الجماعات الدينية أو المنظمات الدولية أو القوات شبه العسكرية، إلخ.

ولن ننسي الرقمنة وتكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي واثرها على السياسة والمجتمع المدني أيضًا، على سبيل المثال، قد برزت أساليب جديدة للتواصل مع السياسيين، والتعاون عبر الحدود، والاستفتاءات المحتملة عبر الإنترنت.

التوازن الجيوسياسي

كثير من التوقعات المتعلقة بتحول التوازن الجيوسياسي مستقبلا حيث من المرجح أن يظهر نظام عالمي متعدد الأقطاب، مع مساحة أكبر للمناورة للقوى الإقليمية (مثل روسيا والبرازيل والهند و الصين)، من المحتمل أن يؤدي هذا إلى مزيد من المنافسة والصراع بين الدول، ومن المحتمل أيضا أن ترتفع النفقات العسكرية وذلك، لظهور تحديات أمنية جديدة بالفعل، كأمن الطاقة، والجوانب الأمنية المتعلقة بتغير المناخ، والهجرة، و لعل أهمها الأمن السيبراني.

الولايات المتحدة القوة العظمي تاريخ أم مستقبل

العديد من المحللين السياسيين توقعوا بأن الولايات المتحدة ستظل قوة عظمى حتى في ظل كل الظروف الحاليه، ولكن  قوتها النسبية ستتضاءل إلى حد ما، في ظل صعود الصين وروسيا وهو من الممكن أن يغير قواعد اللعبة في كثير من النواحي.

إن صعود تلك الدول لا جدال فيه بالفعل بفضل نموها الاقتصادي المطرد ونفوذها الدبلوماسي أو العسكري وخصوصا مع تراجع  أوروبا على التي تعاني من كثير من الانقسامات الداخلية ولعل ابرزها أزمة منطقة اليورو، ولا ننسي الاختلافات حول كيفية إدارة الهجرة الجماعية.

أما كعادة منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا جنوب الصحراء فالصراعات الداخلية تظل العامل الأبرز في فشل أي تحالفات ذات قيمة، والتي تتزامن مع النمو الديموغرافي وزيادة الإجهاد البيئي في المنطقة.

المؤسسات العالمية وتوقعات بنهاية التعددية

المؤسسات العالمية تعتمد على التعاون المثمر بين الحكومات وهو أمر لا يجد طريقا ممهدًا اثناء الصراعات العالمية، وقد يؤدي ذلك في النهاية إلى إضعاف المؤسسات الدولية والممارسات المتعددة الأطراف بشكل عام.

من المتوقع أن يكون للأمم المتحدة (UN) ولاية أضيق في العقود القادمة، مع التركيز بشكل أكبر على القضايا اللينة، مثل المساعدة الإنسانية في مناطق الصراع والتنمية المستدامة، وسيستمر الجدل حول التكوين المستقبلي لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ودوره، مع دعوات لإدراج القوى الأخرى (مثل اليابان أو ألمانيا أو البرازيل أو الهند) بين صانعي القرار العالميين الدائمين الذين يتمتعون بحق النقض.

الاتجاهات الاقتصادية العالمية

أصبح من الواضح والمعترف به هو أن مركز ثقل الاقتصاد العالمي يتحول نحو آسيا، ولكن من المتوقع أن يحتفظ الغرب ببعض المزايا الهيكلية الاقتصادية على سبيل المثال، من المرجح أن يظل الدولار الأمريكي العملة الدولية المهيمنة حتى في ظل صعود الروبل الروسي، وذلك لهيكلية حجم التعاملات العالمية المسير بالدولار، ولكن يبقي السوال الاقتصادي الأبرز هو  هل الاعتماد الاقتصادي المتبادل سيتعمق خلال العقود القادمة، أم أن الحواجز التجارية ستصبح أكثر بروزًا في ظل الصراعات العالمية؟

الأيديولوجيات والقيم

من المستحيل تحديد الأيديولوجيات وطرق التفكير في العالم في الوقت الحالي، ناهيك عن التنبؤ مستقبلا باتجاهات من حيث الأيديولوجيات، فنحن لا نتحدث فقط عن تحولات سياسية بل ما يتبعها من تغيرات في تبني أفكار وهجر أفكار أخرى لا تتناسب مع المكسب القريب للدول.

على سبيل المثال، كان للأزمة المالية العالمية لعام 2008 تداعيات فلسفية وليس اقتصادية فقط، حيث فقدت فكرة رأسمالية عدم التدخل إلى حد ما مصداقيتها وألقت الأزمة بظلالها على السياسات الحزبية حيث أصبحت الانقسامات بين أحزاب اليسار واليمين تتجه إلى انقسامات بديلة في الطيف الأيديولوجي بين الأحزاب المؤيدة للعولمة والمناهضة لها.

أحداث البجعة السوداء وضبابية الرؤية

أي توقعات تهدف إلى تحديد الاتجاهات الجيوسياسية الرئيسية التي تشكل النظام العالمي ستواجه درجة عالية جدًا من عدم اليقين، ليس فقط أنه من المستحيل أخذ جميع العوامل الممكنة في الاعتبار، ولكن هناك أيضًا ما يسمى بأحداث “البجعة السوداء”، والتي يمكن تعريفها على أنها أحداث غير متوقعة تنتج عنها عواقب وخيمة وكان أزمة الوباء العالمي كوفيد ١٩ خير مثال على ذلك.

حيث عصفت تلك الجائحة بالكثير من التوقعات والخطط الاقتصادية والسياسة العالمية وتتضمن الأمثلة على مثل هذه “البجعات السوداء” المحتملة في المستقبل التحول الديمقراطي في الصين، أو تسارع تغير المناخ، أو الحرب النووية الصريحة، أو الانهيار المفاجئ لمنطقة اليورو، أو اندلاع جائحة عالميه أخرى باختصار هناك العديد من الأشياء المجهولة جزئيا، وربما المزيد من الأشياء المجهولة الكليا.

خاتمة

بشكل عام، معظم التوقعات الجيوسياسية متشائمة بشأن التطورات السياسية في الغرب حيث تتضمن الرؤية عالما متعدد الأقطاب تشتد به الصراعات، عالم به دور محدود للمؤسسات الدولية.

من منظور الاقتصاد والديموغرافيا، ومن المتوقع أيضا أن البلدان النامية (خاصة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ) أن تكون هي  المحرك الرئيسي للاقتصاد حتى ثلاثينيات القرن الحالي على الأقل.

إن التقدم العلمي والتكنولوجي سريع الخطى، وستستمر مكافحة تغير المناخ في العمل كخلفية لهذه العمليات، ومع ذلك ومع كل ما سبق نتمنى أن نجد عالمنا العربي على الخريطة الجيوسياسية، ولكن تلك المرة عالم متعاون يسعي للتحالف وتكوين رؤيا مشتركة ولنترك الصراع للغرب مرة كما تركوه لنا أجيالًا.

بقلم| عبد الرحمن خليل

باحث في الاقتصاد والعلوم المصرفية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى