الإنتماء في زمن جائحة كورونا
الإنتماء لدى العلماء والمتخصصين هو الإنتساب إلى المكان الحقيقي تاريخيًا أو جغرافيًا بما يحمل من تراث وعادات وعقائد ولغة وماضي ومسقط رأس بالعاطفة والارتباط وانفعاليات ووجدان تجاه تلك الناحية أو البقعة الغراء التي يقصدها بروحه وقلبه.
والإنتماء للوطن هو عشق داخلي وجداني للمكان والبلد ليس بالكلام ولكن يصدقه العمل بالدفاع عنه والحفاظ عليه أرضا وسماء وشرفًا وعرضًا وسمعة وأخلاقا ومصالح، والتضحيات الحقيقية من أجل تراب هذا الوطن بالروح والجسد والدماء وبكل غالى ونفيس وهو من الإيمان وتتوارثه الأجيال.
فالوطن يُسلم من جيل إلى جيل غاليًا عاليًا نظيفًا راقيًا مجيدًا ممجدًا معتزًا به دافئًا خاليًا من أي آفات أو تعديات أو أمراض أو مخاطر أو تربصات، فلا يسمح لأحد أن يعبث بمقدراته وثرواته وكنوزه وهو أمانة فى رقبة أي منتمى إليه أو عاشق سواء مقيما به أو خارجه وإلى يوم وفاته، وجيناً وراثياً للأولاد والأحفاد.
وفي حال الإنتماء للوطن الغالي مصرنا الحبيبة فيأتي الإنتماء ممتزجًا بالولاء وشتان ما بين الإنتماء والولاء، حيث يُعد الوطن الحبيب مصر أكثر تركيزًا لنبض العراقة والأصالة والرفعة والتميز اللاحق بتلك البقعة من أرض البسيطة لعمق الجذور وعبق التاريخ والتراث الأكثر عمقًا والكنوز وخزائن الأرض التي يحتويه الوطن العظيم بحق، مهد الأديان والحضارات ملاذ اللاجئين ومقبرة الغزاة الغابرين.
ولما كانت تلك البقعة أكثر تميزًا وعمقًا تاريخيًا وطبيعة وجوًا ساحرًا ومناخًا مُلهما فقد كانت التحديات أكثر وأعظم لأنه قد أصبح نُصب عين كل الحاقدين وضعاف النفوس والمرتزقة والعابثين فيصولون ويجولون في سبيل النيل منه، أو إضعافه أو سرقة بعضا من كنوزه وثرواته، ولكن هيهات سرعان ما تندثر وتسقط اعداء الوطن على اعتابه وحدوده التي هي خطوط حمراء ذات لهيب مُستعر يحرق كل باغي وشيطان، رادع لأي سفهاء مغرضين، وغالبًا ما يكون الأمر درسًا يُدرس بالتأريخ على مر العصور.
وحيث أن مصر الوطن العظيم تمتلك شعبًا مختلف بحق أهم سماته هي وعيه بقيمة الوطن والأرض والعرض، ولما لجيشه الساحق من أسود جبابرة لا تعرف الرحمة بكل معتدي أثيم لا يهاب الموت أو إزهاق الروح في سبيل حفنة واحدة من ترابه الذهبي العظيم فكان يستحق أنه حقا (خير أجناد الأرض) كما وصفه سيد الخلق أجمعين صل الله عليه وسلم.
ووقت المحنة والأزمات يكون الجميع جيشًا واحدًا نبراسًا كل على قلب رجل واحد قولًا واحدًا وحدث ولا حرج، ولقد بلغتنا جائحة الوباء المرضي القاتل والفتاك فوقف الجميع جنبًا إلى جنب لمواجهة عدوًا من نوع جديد، حربًا ضروس، فقام الجيش الأبيض وهم أطباء الوطن لمواجهة هذا العدو الشرس.
وعندما نتحدث عن الجيش الأبيض لن نوافيه حقه مهما بلغ الأمر ولا يسعنا ألا أن نشكره رافعين له القبعة مقدرين كل تضحياته الراقية كما لو كان جيشًا يلبس مُمَوها ويحارب على جبهة حقيقة بساحة قتال بأسلحة وذخائر، ولا شك فكم سقطت الأرواح منهم وسالت الدموع على أبطالهم المفقودين من شهداء للواجب الوطني بأرواح نقية بيضاء غراء في زمن الوباء.
أما ما أريد أن اذكره وهو الأمر الذي آلمنا كثيرًا عدم الإلتفات إلى باقي ألوان جيوش الوطن من مختلف ألوانه وأطيافه، والتي انضمت إلى جوار الجيش الأبيض الموقر فكانت هناك منهم التضحيات والضحايا ايضا العديد والعديد،… ألا وهم من نزلوا الميدان جنبا إلى جنب إلى ضابط الشرطة والجيش والطبيب لتعود الحياة ونتعايش ونتأقلم ومنهم جيش الأساتذة والعلماء الأجلاء من اعضاء هيئة التدريس من اساتذة الجامعات والباحثين ورواد العلم وحفظته ومتخصصين في جامعاتهم ومحراب العلم في كل مكان.
وكذلك جيش قضاة الوطن الشامخين على منصات العدالة والمهندسين المعماريون من البنائين في كل مشروعات الوطن والمدرسين ورواد التعليم بمحافلهم ومدارسهم من أجل ابناء وفتيات وأجيال الوطن، وكذلك عمال المصانع وعجلة الاقتصاد والفلاحين والزُراَع من أجل القمح ورغيف العيش للجميع ..،..،… والكثير والكثير لتتعدد الجنود والكتائب من ابناء الوطن.
ولا أستطيع أن أنسى عمال النظافة اوائل من يلتقون بالفيرس الوبائي المميت لأنهم لم يستطيعون أن يطبقوا قاعدة (خليك في بيتك- خليك في أمان) فسقط من هؤلاء الشرائح والجنود المؤتلفة قلوبهم الضحايا والشهداء ايضا ومن أسرهم وأحبائهم من المخالطين وتزداد الأعداد تصاعديًا من أجل عودة الحياة.
سيل جارف من العطاءات لكل أطياف جيوش الوطن لذا لزم الأمر أن ننوه ونشير بأصابع من ذهب إلى تلك الفئات الأخرى المتضافرة والمكافحة من أجل الإستمرار والبقاء، لنلقي الضوء على الجحافل التي بدت جليًا جيوشًا وكتائب أخرى بألوان أخرى عديدة.
ووجب ايضا أن نرفع لهم قبعات وقبعات ليكون الجميع تروسًا في ماكينة واحدة لا تسير الماكينة إذا تعطل أحداها، لا نميز بين ترسًا أو آخر أو لونا بعينه أو آخر، منتمين جميعًا بحق وبلا نفاق أو تزييف ورابضين جميعًا على جبهة واحدة من أجل بقاء وطن واحد تعمل سويًا في الحرب ضد الوباء والأعداء على حد سواء.
وأخيرًا إذا أردنا أن نفرق بين الإنتماء في زمن الوباء أو قبل وقوع البلاء فسوف تتجلى المعاني وتسمو الكلمات لنجده انتماءًا واحدًا قولًا واحدًا لا فرق بينهما بل يزيد النماء ويعلو الإنتماء ونحن على العهد والميثاق ليرقى ويسموا الوطن الحبيب، “الَذيِنَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبسُوا إِيمَاَنَهُمْ بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الَأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ”، زمن مُخيف لكن رَبٌ لطيف.. يارب سَلم سَلم.. حفظ الله مصر جيوشاً وأرضاً، ورفع عنا وعن الأمة البلاء والإبتلاء.
بقلم| الأستاذ الدكتور أحمد علي العطار
باحث وخبير بالعمل العام والتطوع والمشاركة المجتمعية والسياسية