فن وثقافة

ذهاب طريق الغريب.. قصة للكاتب فؤاد ديب

فتح حقيبته، يُخرج منشفةً نظيفةً وفرشاة أسنان جديدة، يقف أمام المرآة يلمس زجاج صورته ويقول في نفسه: ما زال زغب لحيتي يافعاً فلا داعي للحلاقة هذا الصباح فقد أتأخر عن الحافلة ويرمي كل تلك الأشياء في سلة المهملات.

المسافر غريب لا يستعمل الأشياء مرّتين، يملؤ سنامه (حقيبة الظهر) بطعامٍ خفيفٍ وعبوة ماء صغيرة وبعض الزبيب الأسود، يعود إلى المرآة، يختار ابتسامة بعد أن يجرّب أكثر من واحدة ويقشّر وجهاً نظيفاً عن زجاجها، جاء به مغبرا قبل قليل، وبعد ذلك يرفع إصبعه الوسطى بين وجهه والزجاج.

قد يهمك| أنا.. قصيدة للشاعر فؤاد ديب

يخرجُ، يُلقي التحية على رجل استيقظ متأخراً ﻷنه لم يجد كرسياً كيّ ينام، فاستندَ على كتفِ حقيبته وغفا. في الطابور أمام الحمام، يُلقي الغرباء دعابات تحمل معنيين، كأن يقول أحدهم للآخر لا تنظر إلى إصبعك فتحنّ للكتابة، حبر قلمك من الماء وسوف تحتاج إلى مُظهر حبر سري كي تراه في هذا البرد وتكتب ولا دفاتر في الطريق.

يضحكون على هذه التورية وعلى كل النكاتٍ البذيئة حتى وإن لم يفهموا لغات بعضهم، يضحكون معاً كأن النكات البذيئة لغة مشتركة بين الغرباء ويسخرون من حرّاس ظلّهم حين يفتشون مناطقهم الحساسة، فيقول آخر هذا سلاحي صادره فأنا لا أستعمله، يستغرب الحراس ضحكاتهم فهم لا يعرفون لغة عابري الحدود.

قد يهمك| رغيف خبز كامل.. قصة للكاتب فؤاد ديب

“دخل حماماً جماعياً فلمح وجهاً في المرآة نسيه صاحبه” ظن أنه يتوهم وانتبه حين قال آخر: لو أن فتاة تفتشني لبكيت، أخرجوا حقائب متشابهة فكل أشيائهم مثل بعضها، أكياس المؤونة التي يوزّعونها في الطريق متشابهة، الوسائد متشابهة أكياس النظافة الشخصية وكل ما فيها استعمال لمرة واحدة.

كم يشتهي الغريب أن تكون له فرشاة أسنان دائمة أو مرآة خاصة فعلى ذمّة غريب أنه دخل حماماً جماعياً ووجد وجهاً في المرآة نسيه صاحبه حين سمع صوت القطار وخرج مسرعاً “لم يكن يتوهم”.

حينها أدرك لماذا يعتقد الحرّاس أن الغرباء دون ملامح ويشبهون بعضهم، ولهذا حراس الحدود يدقّقون في جوازات السفر عن علامة مميزة فارقة.. كفرح.

الغريب لا يعطي اسمه الحقيقي إلا للحرّاس فهم لا يعرفون الحرب، ويكنّي نفسه باسم جديد ويبالغ في حرصه فيغيّر روايته أمام غريب مثله كأنه ربّى الخوف مثل ولده البكر، فقد يكون هذا الغريب مخبرا، وقد يبالغ أحد الغرباء فيروي بطولاته، فيتهكّم غريب على روايته فيتشاجران ويتّهمان بعضهما بالجبن، يسكتهم غريب بعصبيةٍ يحمل حقيبته يبصق على الأرض تفوووو ويقول: لو أنكم رجال حقاً لبقيتم هناك ويبتعد عنهم.

على مفترق الالتفاتة يختار الغريب وجهته بين غربتين واحدة صوب الخيبة وواحدة صوب السُدى، يختار وجهته غيمة على شكل سهم ٍ فكل سماءٍ في الطريق لونها رمادي، وكل بللٍ لونه كيسُ مطرٍ يرتديه الغريب عند أول دمعة وحين يخزه ملح الحنين يخرج صور أطفاله وزوجته من مكان سرّي خبأ فيه رواية خيباته.

تهب ريح خفيفة توقظه من هبائه، فيرفع رأسه إلى السماء، ويتبع سهم الغيمة من جديد فيعود إلى مفترق الالتفاتة مرة أخرى، قد غيّرت الريح وجهتها حين وخزه الحنين ولم ينتبه، تمنى لو أن لديه حدس الطيور، فبوصلة الغريب شمالها ضياع وجنوبها ضياع، وكلّما فرد الغريب ذكرياته غيّرت الريح وجهتها وعاد إلى مفترق الالتفاتة اللولبي، مسكينٌ رجلٌ سهمُ دلالته غيمة!

ذهاب طريق الغريب
بقلم الكاتب الفلسطيني| فؤاد ديب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى