مقالات وآراء

الدكتور هانئ محمود النقراشي يكتب: مستقبل الكهرباء في مصر

عندما إكتشف الغاز الأرضي في أواخر القرن الماضي في الدلتا المصرية، إستبشرت الحكومة خيرًا، خاصةً وزارة الكهرباء التي كانت تواجه الصعاب في الحصول على النقد اللازم لشراء المازوت وهو الوقود التقليدي لمحطات الكهرباء حيث أنه أرخص أنواع البترول فهو الزيت الثقيل الذي لا يصلح لتسيير السيارات لأنه انبعاثات حرقة من الحبيبات الدقيقة وغاز ثاني أكسيد الكربون ملوثة للغاية.

 

وصرحت وزارة البترول أن الإحتياطي يكفي 32 سنة قادمة وكأن هذا الرقم بدا لها كبيرًا، فبدأت تصدير الغاز إلى الأردن وإسرائيل، وسارعت وزارة الكهرباء إلى تغير الوقود المستعمل في محطات توليد الكهرباء من المازوت إلى الغاز، واستلزم ذلك مد أنابيب خاصة للغاز ووضع معدات موقد الغاز في الغلاية البخارية المستخدمة لأن غلاية المازوت تصلح في أغلب الأحوال لتحويلها إلى حرق الغاز.

 

وكادت الاستثمارات المطلوبة لهذا التحويل تكون محدودة بتكلفة مد أنابيب الغاز، ولما كان متوسط التزايد في الطلب على الكهرباء 6% في ذلك الوقت مما يحتم على وزارة الكهرباء التخطيط المستمر لشراء وتركيب محطات كهرباء جديدة لمواجهة هذا التزايد فقد رأت الوزارة أن تتوجه إلى شراء محطات تعمل بالدورة المركبة لأن كفائتها تصل إلى 55% مقارنةً بكفاءة محطات المازوت التي تتراوح بين 33 و 38%.

 

والدورة المركبة تتكون من نمطين لتوليد الكهرباء، فيحرق الغاز لدفع تربينتين غازيتين تولدان الكهرباء من المولد المتصل بهما وتخرج عوادم الغاز من التوربينتين إلى مبادل حراري لاستغلال الحرارة الباقية في هذه العوادم لتسخين ماء لتحويله إلى بخار يدفع بدوره توربينه بخارية لها مولدها كهربائها الخاص. وبما أن الدورة الأولى تبدأ بتوربينات غازية، فهي لاتعمل إلا بالغاز، لذلك لم يكن استخدامها قبل ذلك ممكنا بسهولة.

 

في ذلك الوقت أي في أوائل هذا القرن، كانت تتوالى تصريحات وزارة الكهرباء عن تحويل هذه المحطة أو تلك إلى استخدام الغاز، وكان هذا التصريح دائمًا مقرونا بعدد أطنان ثاني أكسيد الكربون الذي يوفره هذا التحويل إلى غاز.

 

والسبب في ذكر ثاني أكسيد الكربون دون غيره من الملوثات التي تصحب كل عملية حرق، هو أن تقارير الأمم المتحدة بدأت تتوالى عن التأثير الضار لهذا الغاز عن زيادته عن النسبة الطبيعية في أعالي طبقات الجو، وهو زيادة الإحتباس الحراري الذي يؤدي إلى ذوبان ثلوج القطبين، وبالتالي ارتفاع سطح المحيطات وما يتبعها من غرق المدن الساحلية مثل الإسكندرية والمشروعات المتناهية في الإبداع مثل نخلة الجوميرة في الخليج.

 

وتزامنت هذه الأحداث مع إجراء بدء عام 1998 بدعم الوقود بكل أنواعه ودعم الكهرباء أيضا فكان نصيب الكهرباء دعمين أحداهما للوقود الذي تحرقه والثاني للكهرباء المنتجة. وبدأ هذا الدعم بمبلغ إجمالي 2 مليار جنيه.

 

ومن البديهي أن الدعم يشجع على استهلاك السلع المدعومة فتزايد استهلاك الكهرباء وكذلك استهلاك الوقود السائل والغاز وبالتالي زاد المبلغ المخصص للدعم في ميزانية الدولة حتى وصل في 2007 إلى 120 مليار جنيه دون أن تتخذ الحكومة إي إجراء لمعالجة هذا الخلل، خاصةً وأن تزايد الاستهلاك تطور إلى تبريز في الموارد من كل المنتفعين بالدعم، بدايةً من المواطن الذي يترك أنوار مسكنه مضاءه وهو غير موجود إلى المستثمر الأجنبي الذي اغراه رخص الطاقة في مصر فأتى ليستثمر ولم يأبى بصيانة معداته أو تجديدها لأنها ستكلفه أكثر من الوقود الرخيص الذي تحرقة، ومع أن وزارة الكهرباء جاهدت جهدًا تشكر عليه لشراء المزيد من محطات الكهرباء لتلبية الطلب المتزايد الذي كاد يصل تزايدة السنوى إلى 10 %، وكانت المحطات الجديدة بطبيعة الظروف السائدة تعمل بالغاز إلا أن تزايد الاستهلاك إضافة إلى تعاقدات تصدير الغاز فاقت انتاج حقول الغاز، مما جعل وزارة الكهرباء تحول بعضا من محطاتها إلى استخدام المازوت، الأمر الذي تسبب في أعطال من نوع جديد بسبب الباقية اللزجة لإحتراقة.

 

وبدأت أزمات انقطاع الكهرباء في 2008 وكانت تزداد كل عام لأسباب مختلفة، منها الإضطرار لعمل الصيانة في الصيف وهو فصل زيادة الطلب على الكهرباء ومنها عدم وصول الغاز إلى المحطة رغم اللجوء إلى استيراد الغاز.

 

وقبيل ثورة يناير 2011 بدأت وزارة الكهرباء في التمهيد في استعمال الفحم في إنتاج الكهرباء لأن مستشاريها الأجانب قالوا إنه أرخص أنواع الوقود، وبذلك يتوافق مع الرغبة في تقديم خدمة الكهرباء بأرخص تكلفة لضغط الدعم.

 

وبالطبع فأن كل العاملين في هذه الوزارة يعلمون أن انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من حرق الفحم ضعف مثيلاتها من حرق الغاز قياسا على نفس مقدار الكهرباء المنتجة. ومع ذلك استمروا في بحث موضوع الفحم وتناسوا اقوالهم السابقة عن انجازتهم عندما استبدلوا المازوت الملوث بالغاز النظيف نسبيا، ولم يذكروا أن الفحم أكثر تلوثًا عن المازوت.

 

وبعد ثورة 30 يونيو 2013 وإعلان دستور 2014 الذي ينص في ماته رقم 32 على أن تلتزم الدولة باستخدام الطاقات المتجددة ويلاحظ هنا لفظ الالزام الذي لايترك مجالًا للنقاش، نجد أن الوزارة ما زالت مصممة على استخددام أكثر أنواع الوقود تلويثا مع أنه غير متوفر في مصر ويجب استيراده.

 

وبدأت استعمال تعبير “الفحم النظيف” و “تكنولوجيا الفحم النظيف” دون شرح محتوى هذه التعبيرات ولو ووجد هذا الفحم أو هذه التكنولوجيا لاستعملتها ألمانيا بدلًا من إغلاق محطاتها الفحمية والاستغناء عن موارد الفحم المتوفرة في أراضيها.

 

وفي نوفمير 2015 قدمت الحكومة المصرية ورقة تعهدها بحماية المناخ من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وأهمها هو ثاني أكسيد الكربون إلى مؤتمر المناخ في باريس، وتعهدت فيها بعدم استعمال الفحم طالما وجد عندها وقود أقل ضرر.

 

ولم يمر عام حتى اكتشف حقل “ظهر” في البحر الأبيض المتوسط، لذلك كان من واجب وزارة الكهرباء وهي جزء من الحكومة المصرية أن تحترم تعهدها وتوقف كل مباحثاتها عن محطات فحمية.

 

ولكن المحادثات استمرت إلى أن تمخضت عن التعاقد مع تحالف شركات صيني على بناء محطة كهرباء “الحمراوين” الفحمية على ساحل البحر الأحمر وتقع على بعد حوالي 170 كيلومتر شمال غربي المنتجع السياحي مرسى علم، علمًا بأن الرياح في مصر يغلب عليها الاتجاه الشمالي الغربي، مما سيجعل هذا المنتجع السياحي يتلقى غالبية انبعاثات المحطة من غازات دفيئة وأتربة ذات حبيبات متناهية الدقة تفشل أدق الفلاتر في حجزها.

 

وهكذا تقضي محطة الحمراوين الفحمية على واحد من أجمل المنتجعات السياحية وتسبب في خسارة أكبر بمراحل عن الوفر المنتظر من  استخدام وقود يقال عنه أنه رخيص.

 

وإذا نظرنا إلى دول أخرى تقدم العون الفني لمصر في بناء المحطة الفحمية وهي ألمانيا وخبرائها من ضمن باقة المستشارين الأجانب الذين تفخر وزارة الكهرباء بأنهم عانوها على اتخاذ هذه الخطوة التي يرى فيها كاتب هذا المقال أنها ستسبب الخسارة المؤكدة للمستثمرين، نجد أنها تأخذ سياسة عكسية تمامًا لهذا الاتجاه.

 

في 26 يناير 2019 قررت اللجنة التي كلفتها الحكومة الألمانية ببحث موضوع التخارج من انتاج الكهرباء من الفحم أن تغلق كل محطات الفحم في ألمانيا تدريحيًا على أن تغلق اّخر محطة في عام 2038، وتوصلت اللجنة لحل وسط رضيت عنه كل الأطراف المعنية بعد التفاهم على التعويضات التي تُدفع للمتضررين من هذا الإجراء، والتي قدرت بـ 42 مليار يورو، وهم أصحاب شركات الكهرباء التي تملك المحطات ونقابات العاملين بها وحكومات المقاطعات التي بها هذه المحطات، لأنها ستقوم بانشاء وظائف جديدة للعاملين السابقين في محطات الكهرباء، وهذه الوظائف الجديدة ستكون في مجال الطاقات المتجددة لتسد الفجوات المنتظرة في الإمداد الكهربي الناتج عن إغلاق المحطات الفحمية التي كانت تمثل 48% من القدرة الكهربائية المركبة في ألمانيا، أي أن تكنولوجيا الفحم تنسحب لتفسح المجال لتكنولوجيا الطاقات المتجددة.

 

بسبب اتجاه العالم إلى بدائل المحروقات لإنتاج الكهرباء ووضوح أن الفحم هو أول المحروقات التي ستسبدل، بدأت قيمة أسهم كبرى شركتين لإنتاج وتوزيع الكهرباء في ألمانيا – وكانتا أكبر مستخدم للفحم في الهبوط فنزلت قيمة سهم شركة “rwe” من حوالي 97 يورو في 2007 إلى 11 يورو في، 2015 وشركة “eon” من 48 يورو في 2007 إلى 6 يورو في 2016، إي أن كل منهما خسرت أكثر من 80% من قيمتها، مما يؤكد الاتجاه العالمي في نبذ الفحم.

 

وفي نفس الفترة الزمنية، ارتفعت قيمة اسهم الشركات الجادة التي تصنع معدات الطاقات المتجددة وتلك التي تقدم خدمات ترشيد استخدام الطاقة وزيادة كفاءة استعملاها، ويلاحظ أن الإجراء الأخير- الترشيد- بدأ يحمل بشائر نجاحه في مصر الأن، حيث أهلّ الصيف وهو زمن الزيادة في استخدام الكهرباء ومع ذلك ينخفض الاستهلاك الكلي للكهرباء بدلًا من الارتفاع المنتظر مما حدا بالمسئولين إلى إيقاف 3 محطات غازية عملاقة بقدرة 14800 ميجاوات لعدم الحاجة إليها، مع أن هذه المحطات جديدة وكفاءتها 61% وهي أعلى كفاءة في مصر لغير المحطات المائية.

 

في هذا الظروف العصيبة.. تبرز مجموعة من التساؤلات:

1– ما المبرر في بناء محطتين فحميتين في الحمراوين وعين موسى أحدهما 6000 ميجاوات، والأخرى 2640 ميجاوات في حين أن محطات عالية الجودة بقدرات 14800 ميجاوات تغلق ؟. ومن سيدفع التعويضات لو تكرر الاستغناء عن المحطتين الفحميتين بعد فترة نتيجة ضغط المجتمع الدولي؟

 

2– في السنوات العشر الماضية تذبذب سعر الفحم في السوق العالمية بين 40 و 80 دولار للطن، فأي ضمانات تعطى للتعاقد على سعر مقبول للكهرباء.

 

3– لقد أثبتت المحطات الشمسية الحرارية ذات التخزين الحراري أنها تستطيع أن تحل مكان المحطات الفحمية في ادائها حتى في الظروف الاستثنائية مثل السحب الكثيفة أو الخماسين وتنتج الكهرباء بنفس سعر الكهرباء الفحمية. فلماذا لا يستثمر في هذه المحطات وهي مستقلة عن تذبذب أسعار الوقود وهي بذلك مضمونة الربح للمستثمر.

 

4– إن المحطات الشمسية الحرارية التي يمكنها العمل في مصر والبلاد العربية بكفاءة لاتصلح فى وسط أوروبا لأن شمسها لاتسطع بالقدر الكافي. إذن ماهي الطاقات المتجددة التي ستستعملاها ألمانيا بديلًا عن الفحم؟. لقد أثبتت الطاقات المتجددة المتاحة في ألمانيا أنها لا تستطيع تلبية متطلبات مجتمعها المدني الصناعي لتقلبها العشوائي وأن تخزين الطاقة لا مفر منه فما العمل وتكتولوجيا التخزين المتاحة لاتصلح لتخزين الكهرباء بالكميات المطلوبة؟.

 

 

الدكتور مهندس هانئ محمود النقراشي

خبير الطاقة العالمي

عضو المجلس الاستشاري العلمي لرئيس الجمهورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى