تداعيات ما بعد هدنة الغوطة

بكل المقاييس يمكن اعتبار القرار الذي صدر عن مجلس الأمن الدولي، يوم السبت الماضي، بإجماع الأعضاء إنجازًا إنسانيًا كبيرًا، لوقف مسلسل إراقة الدم الرهيب في غوطة دمشق وغيرها من المناطق الملتهبة في سوريا، وما أكثرها.
احتاج صدور هذا القرار ثلاثة أيام كي يرى النور، وجرى تحميل المسئولية عن هذا الإرجاء لروسيا التي كانت لها تحفظات ومطالب على المشروع الذي كانت أعدته الكويت والسويد، بهدف التوصل إلى هدنة إنسانية لوقف القتال لمدة شهر بهدف إيصال المساعدات الإنسانية بشكل منتظم إلى الغوطة وإجلاء طبي للمرضى والمصابين.
كان واضحاً خلال الأيام الثلاثة التي سبقت التصويت على القرار وجود انقسام واضح وحاد بين موقفين. الموقف الغربي الداعي إلى “وقف فوري لإطلاق النار دون شروط وفرض هدنة فورية لمدة شهر” دون أي ذكر لتعريف من هي الأطراف المتصارعة في الغوطة ولماذا تتصارع؟ كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقود هذا الموقف بدعم قوي من بريطانيا ومساندة من فرنسا.
على الجانب الآخر كان الموقف الروسي الداعي إلى وقف إطلاق النار ولكن بشروط تتعلق بالأطراف المتصارعة في الغوطة وتكشف بعض خلفيات الصراع الذي لم يعلم عنه العالم غير شئ واحد هو أن الجيش السوري مدعوماً من روسيا وباقي الحلفاء الداعمين له يقصفون بضراوة ودون رحمة المدنيين في الغوطة الشرقية لدمشق. كان الموقف الروسي يحاول كشف بعض معالم الصراع التي جرى إخفاؤها عمداً، والتكتم عليها بالتركيز فقط على الجانب الإنساني.
فقد تركزت المطالب الروسية على إجراء تعديل للفقرة التنفيذية الثانية من مشروع القرار ينص على أن “العمليات العسكرية ضد تنظيمات داعش والنصرة وكل من يرتبط بها لن تكون مشمولة بوقف الأعمال القتالية”.
هذا الانقسام بقى ثلاثة أيام سقط خلالها مئات القتلى وربما آلاف الجرحى والمصابين من المدنيين، ولم يقل أحد أن الولايات المتحدة والدول الغربية في مجلس الأمن كانت تدافع بضراوة عن هذه التنظيمات الإرهابية المتركزة في الغوطة الشرقية والتي تفرض سيطرتها على الغوطة وتتعامل معها كمنطقة نفوذ خارج سيطرة الدولة السورية.
لم يقل أحد أن هذه الدول الغربية ودول أخرى إقليمية خاصة تركيا ودول عربية هي من يدعم هذه التنظيمات ويدافع عنها ويمولها، وأن هذه الدول ظلت تماطل ثلاثة أيام كي يصدر القرار دون التعديلات الروسية بهدف حماية هذه التنظيمات ومنع الجيش السوري من تحرير الغوطة.
كل ما كان يقال هو أن روسيا تعرقل صدور قرار إنساني من مجلس الأمن يضع نهاية لجرائم إراقة الدماء، دون إشارة إلى أن هؤلاء المدنيين القتلى والمصابين تحولوا إلى دروع بشرية لتلك التنظيمات الإرهابية، وأن هذه الدول كانت تريد بقرار وقف القتال إنقاذ هذه التنظيمات قبل هؤلاء المدنيين والاستفادة من هدنة الشهر التي نص عليها القرار لإعادة ترتيب أوضاع هذه التنظيمات.
وهذا الموقف له علاقة مباشرة بما يجري الترتيب له عقب انتهاء هذه الهدنة، والتي كان قد سبقها تصعيد خطير أمريكي وتركي وإسرائيلي قبل أيام من تفجر أحداث الغوطة في تحول شديد الخطورة بالنسبة لكل ما كان قد تم تحقيقه من تقدم في مسار التسوية السياسية للأزمة السورية.
فتركيا دفعت بقواتها إلى سوريا مجدداً تحت عنوان “غصن الزيتون” لطرد المليشيات من التأسيس لكيان كردي مستقل عن الدولة السورية في الشمال تراه خطراً على أمنها القومي، ولتحقيق ما لم تستطع تحقيقه في حملتها الأولى (حملة درع الفرات عام 2016). والواضح الآن أن تركيا تريد أن تحصل على نصيبها من “الكعكة” السورية.
وإسرائيل، بعد صدمتها في معارك يوم السبت 10 فبراير الجاري مع الجيش السوري وخسارتها إحدى طائراتها المتطورة صعدت من موقفها وقررت على لسان رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو أن تكون المواجهة ابتداءً من الآن مع إيران وليس فقط مع وكلائها سواء حزب الله أو الجيش السوري. نتنياهو أعلن ذلك أمام قادة العالم في مؤتمر ميونيخ للأمن يوم الأحد (18/2/2018) بقوله في حضور وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف “سنتحرك ضد إيران إذا لزم الأمر وليس فقط ضد وكلائها” وختم حديثه المطول بالقول: “لدي رسالة للطغاة.. لا تختبروا عزم إسرائيل”.
أما الولايات المتحدة التي فرضت سيطرتها على منطقة شرق الفرات المجاورة للحدود العراقية وتحالفت مع ميليشيات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وأعلنت أنها ستشكل جيشاً من هذه الميليشيات لحماية الحدود مع تركيا والعراق، أي حدود ما يمكن اعتباره “إقليم حكم ذاتي كردي”.
قررت أن تغير سياستها جذرياً في سوريا، فبدلاً من إعلانها على لسان وزير دفاعها جيمس ماتيس في 16 يناير الماضي في ذروة أزمة الصواريخ الحوثية التي أطلقت على العاصمة السعودية، أن تلك الأزمة “لا تستدعي رداً عسكرياً الآن”، عادت وغيرت موقفها وقررت أن ترد وبعنف على محاولة اختراق قامت بها قوات شعبية تابعة للجيش السوري عبر نهر الفرات لإحدى قواعد الميليشيات الكردية في دير الزور.
جاء هذا الهجوم ترجمة للإستراتيجية الأمريكية الجديدة الآخذة في التبلور والتي تهدف إلى تجاوز معادلة تفوق القوة التي فرضتها روسيا وحلفاءها في سوريا، وإعادة فرض الولايات المتحدة طرفاً فاعلاً ومحركاً للأحداث في سوريا، وفقاً للخطة أو المشروع الأمريكي الجديد الذي عرض له السفير ديفيد ساتر فيلد مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط خلال اجتماع عقده في واشنطن (11/1/2018) بحضور ممثلين عن “مجموعة سوريا” الأمريكية، وهي الخطة التي تستهدف تقسيم سوريا وفصل الشرق السوري وشمال الشرق السوري عن البلاد.
كما أبلغ ساتر فيلد الحضور أن الإدارة الأمريكية خصصت أربعة مليارات دولار سنوياً للإبقاء على حضور عسكري قوي في سوريا، سيتم إنفاقها على توسيع القواعد العسكرية الأمريكية في الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد خاصة في الرميلان في أقصى الشرق السوري وفي عين العرب (كوباني) على خط الحدود السورية- التركية، وأوضح أن الهدف هو منع الإيرانيين من التمركز على المدى البعيد في سوريا أو فرض أنفسهم في مسارات الحل السياسي، وإفشال المسعى الروسي للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية.
هذا يعني أن الولايات المتحدة قررت التوقف عن سياسة “المناكفة” مع روسيا وإيران في سوريا وأنَّ تتحول إلى سياسة المواجهة، وربما المواجهة الساخنة، في وقت تستعد فيه إسرائيل هي الأخرى إلى هذه المواجهة، للفوز بنصيبها هي الأخرى من سوريا وربما يكون الهدف الإسرائيلي هو الحصول على اعتراف دولي بسيادتها النهائية على هضبة الجولان السورية المحتلة، مع مسعى تركيا للتوسع في شمال سوريا، ومن ثم فإن تهدئة الغوطة وفق القرار الأخير لمجلس الأمن قد تكون فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق استعداداً لجولات جديدة من المواجهة تعيد الأزمة السورية مجددًا إلى أعنف صورها ولكن المواجهة ستكون مباشرة متجاوزة الوكلاء وهذا هو خطرها.
الدكتور محمد السعيد إدريس
المقال: منشور بتصريح كتابي من الكاتب