الدكتور محمد السعيد إدريس يكتب: خلفيات الذعر الأمريكي من إتفاق إدلب
الرفض الأمريكي لصدور إعلان من مجلس الأمن الدولي يؤيد إتفاق وقف إطلاق النار الذي كان قد تم التوصل إليه بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان، في موسكو يوم الخميس الماضي (5/3/2020) بشأن الصراع الدامي المتفجر في محافظة إدلب السورية وريفها، بقدر ما كان رفضًا غامضًا ومثيرًا للتندر والتعجب من جانب معظم، إن لم يكن كل الوفود بالمجلس، ناهيك عن المراقبين والإعلاميين، بقدر ما كشف عن جدية المخاوف الأمريكية من النتائج السلبية التي يمكن أن تترتب على هذا الاتفاق من منظور المصالح الأمريكية في سوريا.
أدركت الولايات المتحدة مبكرًا فداحة المأزق المزدوج التركي والأمريكي في الصراع الدامي الذي كان يجرى في إدلب خصوصًا بعد التورط التركي المباشر في هذا الصراع.
فالولايات المتحدة المتحالفة مع التنظيمات والميليشيات الكردية السورية في شرق الفرات ضد رغبة ومصالح تركيا التي تعتبر أنها المستهدف الأول من هذا التحالف، كانت تدرك أنها ليس باستطاعتها تقديم دعم جاد لتركيا ولعمليتها الجديدة في سوريا التي أعطتها أنقرة اسم “درع الربيع” للقتال في إدلب ضد الجيش السوري المدعوم من روسيا.
فهذا الدعم سيكون ضد رغبة الشركاء الأكراد، فهي فى مأزق إما أن تكون مع تركيا أو تكون مع الميليشيات الكردية المعادية لتركيا والتي تتعامل معها تركيا باعتبارها مصدر أساسي لتهديد الأمن القومي التركي كونها ذراعًا لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض المتهم بالإرهاب من جانب أنقرة.
في نفس الوقت كانت واشنطن تدرك فداحة المأزق التركي في الصراع العسكري في إدلب، لأنه من ناحية يجعل تركيا أمام العالم دولة داعمة للإرهاب، نظراً لأن معظم الأسلحة التركية التي دخلت إلى سوريا آلت إلى مقاتلي جبهة النصرة الإرهابية، ولأن هذه الجبهة هي الجبهة الأهم التي تخوض الصراع في إدلب ضد الجيش السوري، ولأنه من ناحية أخرى يضع تركيا في مواجهة مباشرة مع روسيا التي لن تسمح بهزيمة الجيش السوري، بل لن تتراجع عن دعم تقدم هذا الجيش واستعادته مواقع ومساحات مهمة في ريف إدلب على عكس الرغبة التركية.
هذا الإدراك الأمريكي دفع بالولايات المتحدة إلى محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه سواء بمنع حدوث هزيمة تركية في إدلب أو بمنع الرئيس التركي من التوجه إلى موسكو كملاذ أخير لإنقاذ ماء الوجه، ووضع حد لفشل عسكري في إدلب ستكون له حتمًا نتائجه السياسية الفادحة على مستقبل الدور التركي في سوريا.
لأن هذا التوجه التركي نحو موسكو سيفسد كل ما حاولت واشنطن القيام به خلال الأسابيع الماضية لإفساد العلاقة بين موسكو وأنقرة وإحباط المخطط الروسي الخاص بتركيا سواء على صعيد الشراكة العسكرية وفي مقدمتها صفقة صواريخ “اس 400″ التي باعتها روسيا لتركيا أو على صعيد الشراكة الاقتصادية متمثلة بالأساس بـ”خط أنابيب السيل التركي” الذي سينقل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، أو على صعيد الشراكة السياسية التي يمكن أن تتأسس بين البلدين كنتيجة لنجاحات الشراكتين العسكرية والاقتصادية، ويمكن أن تؤسس لمشروع روسى- تركى بخصوص سوريا على حساب ما تراه واشنطن مصالح أمريكية.
فقد بادرت الولايات المتحدة بإظهار دعم سياسي للتدخل العسكري التركي في إدلب، بإعلان رفضها للتقدم العسكرى السوري المدعوم من روسيا في محافظة إدلب، لكنه كان دعمًا أمريكيًا باهتًا أدركت أنقرة هشاشته مبكرًا وبالتالي زادت من قناعتها بعدم المراهنة على الحليف الأمريكي.
فالمندوبة الأمريكية لدى حلف شمال الأطلسي كاى بيلى هاتشسون أدلت بتصريحات قالت فيها “لسنا موافقين على كل الإجراءات التي تتخذها تركيا في سوريا (وهنا إشارة إلى السياسات التركية تجاه أكراد سوريا)، لكننا نعتقد أن هذه الهجمات من قبل سوريا (تقدم الجيش السورى فى محافظة إدلب) المدعومة من روسيا تتجاوز كل الحدود”.
وأضافت “نحن مصممون بكل حزم على دعم تركيا فى هذا الوضع، وسنطلب من روسيا وقف الدعم للأسد، لإيجاد إمكانية للمضي قدمًا نحو اتفاق سلام في سوريا”.
وقبيل تأكيد أنباء انعقاد القمة الروسية- التركية في موسكو يوم الخميس الفائت وصل إلى أنقرة مساء الاثنين (2/3/2020) وفد أمريكى يضم مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا جيمس جيفرى ومندوبة أمريكا في الأمم المتحدة كيلى كرافت لإجراء مباحثات مع المسئولين الأتراك حول الأوضاع في سوريا والتطورات في إدلب، كان هدفها الوقيعة بين تركيا وروسيا وعرقلة رغبة أردوغان فى لقاء بوتين.
فعقب وصول هذا الوفد أدلى جيمس جيفرى صباح الثلاثاء (3/3/2020) بتصريحات أعلن فيها أن “بلاده على استعداد لتزويد تركيا بالذخيرة والمساعدات الإنسانية فى منطقة إدلب”.
لكن يبدو أن هذا التحرك الأمريكي جاء بعد فوات الأوان، وبالتحديد بعد أن كانت القيادة التركية قد حسمت أمرها بإنهاء عمليتها العسكرية في إدلب “درع الربيع” حرصًا على عدم التورط في مواجهة عسكرية مباشرة مع روسيا، بعد أن أدركت أن روسيا جادة في تعظيم نجاحات الجيش السورى والمحافظة على وحدة الأراضي السورية وهزيمة الإرهاب، ناهيك عن الخشية من تراكم الخسائر في الأرواح وتفاديًا لنجاحات المعارضة التركية في تأليب الرأى العام التركي ليس فقط ضد عملية “درع الربيع” بل وضد كل سياسات التدخل التركي في سوريا.
ذهاب الرئيس التركي إلى موسكو كان بمثابة إفشال لزيارة الوفد الأمريكي، الإدراك الأمريكي بالفشل أكده تهافت الرئيس التركي للحصول من موسكو على اتفاق يقضي بوقف إطلاق النار في إدلب، كما أكده القبول الروسي لانعقاد القمة بعد التأكد الروسي الكامل من استعادة الجيش السورى، من استعادة مدينة “سراقب” التي تتحكم بالطريقين الدوليين (أم 4) الذي يربط بين حلب واللاذقية و(ام 5) الذي يربط بين حلب ودمشق، واستعادة السيطرة على هذين الطريقين وإجهاض كل النجاحات العسكرية التي كانت قد تحققت للمعارضة بفضل المشاركة التركية المباشرة في القتال ضد الجيش السوري، ما يعني أن قمة موسكو بين بوتين وأردوغان كانت تعني استسلامًا تركيًا مسبقًا للشروط والمطالب الروسية.
وجاء مضمون الاتفاق الذي تم التوصل إليه في موسكو ليثير الذعر الأمريكي ويفاقم الخسارة الأمريكية على كافة المستويات، سواء على مستوى التنافس الأمريكي مع روسيا على تركيا، أو على تأكيد النفوذ الروسي في سوريا، أو على صعيد الحصول على دعم تركي لمطلب وحدة الأراضي السورية ورفض أي وجود أجنبي كما تريده روسيا.
وهو ما يهدد النفوذ الأمريكي في شرق الفرات، ويعطي للجيش السوري طموحًا بتحرير هذه المنطقة واستعادتها وإنهاء الوجود الأمريكي بعد اكتمال استعادة إدلب وتنظيم العلاقة مع تركيا.
ومن هنا جاء الرفض الأمريكي لصدور إعلان من مجلس الأمن لاتفاق يقضي “تكتيكياً” بوقف إطلاق النار في إدلب، لكنه يدعم إستراتيجيًا إلتزام كل من موسكو وأنقرة باستقلال “الجمهورية العربية السورية” ووحدة أراضيها، ويؤكد عزم روسيا وتركيا على محاربة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية دون استثناء لجبهة النصرة، ويدعم كل النجاحات العسكرية التي حققها الجيش السوري في محافظة إدلب، خصوصًا في ظل ما أكده الكرملين ووزارة الدفاع الروسية يوم الأربعاء (4/3/2020)، أى قبل ساعات من انعقاد قمة موسكو في البيان الذي وصف التدخل العسكري السوري في ريف إدلب بأنه “تدخل مشروع”، وأن القوات الأجنبية في سوريا، باستثناء الروسية التي جاءت بطلب سورى، “غير شرعية” ويجب أن تغادر الأراضي السورية سلمًا أو حربًا في إشارة إلى القوات الأمريكية الموجودة في منطقة شرق الفرات السورية.
كل هذه المبررات كانت كافية كي ترفض واشنطن صدور إعلان من مجلس الأمن يؤيد اتفاق وقف إطلاق النار في إدلب الذي توصلت إليه قمة بوتين- أردوغان الذي يعني بوضوح أن الولايات المتحدة تأتي على جدول من سيدفع أثمانه، لكن يبدو أن الأمريكيين لن يكتفوا برفض الاتفاق بل سيعملون جاهدين على إفشاله من خلال إغراء جبهة النصرة بالخروج عليه كمدخل لتأزيم العلاقات الروسية- التركية.
بقلم-الدكتور محمد السعيد إدريس