مقالات وآراء

مدرستا النّحو العربي أصل مشترك

أثارَ بعضُ دارسي النّحو العربي مشكلةً ما زلنا نَلْمِسُ آثارها إلى الآن، وهي أنّ علماء النّحو ينقسمون مَدرستَيْن، مدرسةَ البصرة ومدرسةَ الكوفة.

 

ويرى هؤلاء أنّ لكلّ مدرسة منهما خصائصَها التي تُميّزُها من الأُخرى في المنهج، والأسلوب، وأصول الاحتجاج. وأوغلَ بعضُهم في هذا حتّى ظهرت مصنّفاتٌ عدّة تبحث في هاتَيْن المدرستَين، وتُعالج قضايا النّحو على أنّها من نتاج هذه المدرسة أو تلك، وتُعنَى بمسائل الخلاف بين البصريّين والكوفيّين.

 

ولكنّ النّظرة المتمهّلة المتأمّلة تجعل الدّارس المتبصّرَ بالنّحو وأصوله يرى أنّ مصدر هاتَيْن المدرستَيْن هو كتاب سيبويه، وأنّه المَنْبعُ الذي استقى منه النّحويّونَ البصريون والكوفيّون أُصولَ مَادّتهم العلميّة في مصنّفاتهم.

 

ويلحظ أنّ المؤسّس الأوّل لما يُسمّى مدرسة الكوفة هو الأخفش الأوسط تلميذ سيبويه، الذي جلس بعده للطلاّب يُملي عليهم كتاب سيبويه، ويشرحه ويُبيّنه.

 

وعنه أخذ تلاميذه البصريّون، كما أخذ عنه علماء الكوفة وعلى رأسهم إمامهم الكسائيّ، لأنّه قرأ عليه كتاب سيبويه.

 

ثمّ إنّنا نجد أنّ أكثر المصطلحات النّحويّة التي تداولها الكوفيّون واعتمدوها في مصنّفاتهم مأخوذة عن كتاب سيبويه. بل لكتابه الفضل الأوّل في إشاعة المصطلحات النّحويّة والصرفيّة التي استعملها البصريّون والكوفيّون وإذاعتها طوال العصور.

 

وهذا يعني أنّ كتاب سيبويه هو قوام المدرسة البصريّة ومحور نشاطها، وهو مادة علم البصريين، وجلّ عملهم أنّهم كانوا يزيدون عليه شرحاً وتفسيراً.

 

وأمّا الكوفيّون فليست عنايتهم بالكتاب بأقلّ من عناية البصريين، إلا أنّهم كانوا يقفون منه – في الغالب – موقف النّاقد، وكانوا يستمدّون منه مادّةَ درسهم الأولى، وإنْ كانوا يُخفون ذلك بدافع العصبيّة.

 

والقارئ لنحو الكوفيين يلحظ بوضوح أنّ آراء الكوفيين، وإن اختلفت في بعض جوانبها عن نحو البصريين، لا تخرج في أصولها على قواعد النّحو والصّرف التي ذكرها سيبويه، وعلى أصول الاحتجاج التي اعتمد عليها في كتابه، على أنّ هذا لا يمنع وجود آراء نحويّة مخالفة لكتاب سيبويه نجدها عند الفريقَين على السّواء، ولكنّها خلافاتٌ يسيرةٌ لا تعدو الفروع إلى الأصولِ، ولا يُبنَى عليها خلافٌ بين ما يُسمّى مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة، لأنّه ليس خلافاً بين البصريين والكوفيين، بل هو خلافٌ بين نحويٍّ وآخر، فالمبرّد خالف سيبويه في كثير من مسائل النحو، ولم يمسّ هذا بصريّته، يؤكّد ذلك أنّ ابن ولاد التميمي صنع كتاباً سمّاه (الانتصار لسيبويه على المبرّد).

 

كما أنّ الكوفيين ليسوا سواءً في المسائل كلّها، فبعضهم خالفه، وذهب آخرون مذهبه.

 

إنّ شواهد كتاب سيبويه هي معظم شواهد النّحو العربي على مدى القرون، ولا يختلف أسلوب نُحاة الكوفة في استقراء لغة الشّعر عن أسلوب سيبويه ومنهجه، من حيثُ الاحتفال بشعر القبائل البدويّة وتوثيقه، والتثبّت من صحّة نقله وفصاحته.

 

والغالب على الكوفيين أنّهم لم يحتجّوا بأبيات شاذّة نادرة، وإذا جاء ذلك في مصنّفاتهم، فإنّه يأتي عَرَضاً، وهو لا يرقى إلى صنيعهم بلغة الشّعراء البُداة.

 

وإنّ منهج نُحاة الكوفة في الاحتجاج بكلام العرب قريبُ الشّبه من منهج سيبويه، الذي يهتمّ بفصاحة الأعرابيّ الذي ينقل عنه الظاهرة، فينسب ما سمعه إلى فصحاء العرب الموثوق بهم. وصنعَ الكُوفيُّون صنيع سيبويه، ولكنّهم لم يبلغوا منزلته في ذلك.

 

فقد ورد عنهم أنّهم احتجّوا بلغاتٍ أخرى لم يحتجّ بها سيبويه، غير أنّ ذلك لا يعني أنّهم كانوا يتساهلون أو يترخّصون في قَبول تلك اللغات التي اعتمدوا عليها في دراستهم، بل كانوا يتثبّتون منها.

 

ولنتحقّق من صحة ما ذهبنا إليه نستعرض مسألة عقدها أبو البركات للخلاف بينهما في كتابه (الإنصاف في مسائل الخلاف)، وهي الفصل بين المضاف والمضاف إليه، قال فيها: “ذهب الكوفيون إلى أنّه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظّرف وحرف الخفض لضرورة الشّعر، وذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز بغير الظرف وحرف الجرّ”.

 

وهذا مخالفٌ لمَا ورد في معاني القرآن للفرّاء، فإنّه يقول: “ولكن إذا اعترضتْ صفةٌ بين خافضٌ وما خفض جاز إضافته، مثل قولك: هذا ضاربُ في الدّارِ أخيه، ولا يجوز إلا في الشّعر”، ومراده بالصفة: الظرف أو حرف الجرّ كما هو في اصطلاح الكوفيّين.

 

كما أنّه ذكر أنّ نُحاة أهل المدينة يُنشدون قوله: فَزَجَجْتُها مُتَمَكّناً ‍- زَجّ القلوصَ أبي مَزَادَهْ

 

ثمّ قال: “باطلٌ، والصّواب: زَجَّ القلوصِ أبو مَزَادَهْ”. فالفرّاء يرى أنّ رواية أهل المدينة لهذا الشاهد تخالف المشهور عند النّحاة، لأنّه فُصِل بين المضاف والمضاف إليه بغير شبه الجملة.

 

وهذا موافق لما جاء في كتاب سيبويه، فإنّه يرى أنّ الفصل بينهما قبيح، لأنّهما كالشّيء الواحد، على أنّه يُجيز الفصل بينهما بشبه الجملة في الشّعر للضرورة، يقول: “ولا يجوز: يا سارقَ الليلةَ أهلِ الدّارِ، إلا في شعرٍ، كراهة أن يفصلوا بين الجار والمجرور”. يريد بين المضاف والمضاف إليه.

 

ولعلّ الذين أجازوا الفصل بينهما بغير شبه الجملة أخذوا ذلك عن الأخفش، لأنّه ورد في بعض نسخ سيبويه زيادة هذا نصّها: قال أبو الحسن: إلا في الشّعر، سمعت عيسى بن عمر يُنشد: فَزَجَجْتُها بِمِزَجّةٍ ‍- زَجَّ القلوصَ أبي مَزَادَهْ

 

وتحرير القول في هذه المسألة أنّ مذهب الفرّاء موافقٌ لمذهب سيبويه في جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بشبه الجملة في الشعر للضرورة، ومنع جوازه بغيرهما. في حين أنّ الأخفش أجازه مستنداً إلى البيت الذي أنشده بعض المدنيّين، ولعلّ مَنْ أجازه من الكوفيّين أخذ ذلك عنه.

 

ويمكن القول إنّ ما يُسمَّى بمدرستَي البصرة والكوفة مدرسةٌ واحدةٌ مصدرها كتاب سيبويه، فهو المنبع الذي استقى منه النّحويّون البصريّون والكوفيّون أصول مادّتهم العلميّة. وعلى الباحثين الذين يهتمّون بتبسيط النّحو العربي وتيسيره، أن يتركوا مسائل الخلاف التي تزيد النّحو تعقيداً، ويلتفتوا إلى القواعد الأساسيّة العامّة

 

 

الدكتور الطاهر الهمس
رئيس قسم اللغة العربية – كلية الاداب – جامعة الفرات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى